[rtl]
[/rtl]
الحمد لله رب العالمين، ولا عدوان إلا على الظالمين، والعاقبة للمتقين، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين، محمد بن عبد الله الصادق الأمين، وعلى آله وصحبه أجمعين، وعلى النابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد:
فهذا سؤال أوجهه إلى الفقراء والأغنياء، إلى العلماء وطلبة العلم، إلى العامة والخاصة، إلى كافة فئات المجتمع، بل إلى كل مسلم ومسلمة، وهذا السؤال لم أكن بمبتدع له، ولا أول مخترع له، بل إن لي فيه قدوة وأسوة من صاحب الشريعة الغراء – عليه الصلاة والسلام-؛ فإنه قد وجه هذا السؤال إلى أفضل البشرية جمعاء، فقال مخاطباً إياهم: (أتدرون من المفلس؟!) فكانت إجابتهم المفلس فينا من لا درهم له ولا متاع؛ فبين لهم من المفلس الحقيقي، فقال: (إن المفلس من أمتي من يأتي يوم القيامة بصلاة وصيام وزكاة، ويأتي وقد شتم هذا وقذف هذا وأكل مال هذا وسفك دم هذا وضرب هذا، فيعطى هذا من حسناته وهذا من حسناته، فإن فنيت حسناته قبل انقضاء ما عليه أخذ من خطاياهم فطرحت عليه ثم طرح في النار-نسأل الله العافية والسلامة-.
[rtl]وهذا يبين لنا خطورة ظلم الآخرين، وذلك بأي نوع من أنواع الظلم؛ كالغيبة والنميمة أو القذف أو أخذ المال بغير حق، أو سفك دم، أو غير ذلك من أنواع وصور الظلم، فحقوق الغير خطية جداً؛ فعن عائشة -رضي الله عنها- قالت: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (الدواوين ثلاثة: فديوان لا يغفر الله منه شيئاً وديوان لا يعبأ الله به شيئاً، وديوان لا يترك الله منه شيئاً؛ فأما الديوان الذي لا يغفر الله منه شيئاً فالإشراك بالله -عز وجل-، قال الله -عز وجل-: {إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء} وأما الديوان الذي لا يعبأ الله به شيئاً قط فظلم العبد نفسه فيما بينه وبين ربه، وأما الديوان الذي لا يترك الله منه شيئاً فمظالم العباد بينهم القصاص لا محالة)2.[/rtl]
[rtl]وعن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: (لتؤدن الحقوق إلى أهلها يوم القيامة حتى يقاد للشاة الجلحاء من الشاة القرناء)3. وعن أبي هريرة أيضاً -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عيه وسلم- قال: (من كانت عنده مظلمة لأخيه من عرضه أو شي فليتحلله منه اليوم قبل أن لا يكون دينار ولا درهم. إن كان له عمل صالح أخذه منه بقدر مظلمته، وإن لم يكن له حسنات أخذ من سيئات صاحبه فحمل عليه)4.[/rtl]
[rtl]وعن عبد الله بن أنيس-رضي الله عنه- قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: (يحشر العباد أو قال الناس- شك- وأومأ بيده إلى الشام عُراة، غُرلاً، بُهماً) قال: ما بهماً؟ قال: (ليس معهم شيء فيناديهم بصوت يسمعه من بُعد ومن قُرب، أنا الملك، أنا لديان، لا ينبغي لأحد من أهل الجنة أن يدخل الجنة، وواحد من أهل النار يطلبه بمظلمة حتى اللطمة، ولا ينبغي لأحد من أهل النار أن يدخل النار وواحد من أهل الجنة يطلبه حتى اللطمة). قال قلنا: كيف وإنما نأتي الله عراة حفاة؟، قال : (بالحسنات والسيئات)5. فإذ عُلم هذا فيجب على كل مسلم البدار إلى محاسبة نفسه، وذلك بأن يتوب عن كل معصية قبل الموت توبة نصوحاً ويتدارك ما فرط من تقصير في فرائض الله- عز وحجل-، ويرد المظالم إلى أهلها حبة حبة، ويستحل كل من تعرض له بلسانه ويده وسطوته بقلبه، ويطيب قلوبهم حتى يموت، ولم يبق عليه فريضة ولا مظلمة، فهذا يدخ الجنة بغير حساب، فإن مات قبل رد المظالم أحاط به خصماؤه، فهذا يأخذ بيده وهذا يقبض على ناصيته، وهذا يتعلق بلبته، وهذا يوق ظلمني، وهذا يقول شتمني، وهذا يقول استهزأت بي، وهذا يقول ذكرتني في الغيبة بما يسوءني، وهذا يقول جاورتني فأسأت جواري، وهذا يقول عاملتني فغششتني، وهذا يقول بايعتني وأخفيت عني عيب متاعك، وهذا يقول كذبت في سعر متاعك، وهذا يقول رأيتني محتاجاً وكنت غنياً فما أطعمتني، وهذا يقول وجدتني مظلوماً وكنت قادراً على دفع الظلم فداهنت الظالم وما راعيتني، فبينما أنت كذلك وقد أنشب الخصماء فيك مخاليبهم واحكموا في تلابيبك أيديهم، وأنت مبهوت متحير من كثرتهم حتى لم يبق في عمرك أحد عاملته على درهم أو جالسته في مجلس غلا وقد استحق عليك مظلمة بغيبة أو جناية أو نظر بعين استحقار، وقد ضعفت عن مقامتهم ومددت عنق الرجاء على سيدك ومولاك لعله يخلصك من أيديهم إذ قرع سمعك نداء الجبار: {الْيَوْمَ تُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ لَا ظُلْمَ الْيَوْمَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ}سورة غافر: 17.[/rtl]
[rtl]فعند ذلك ينخلع قلبك من الهيبة، وتوقن نفسك بالبوار، وتتذكر ما أنذرك اله به على لسان رسوله- صلى الله عليه وسلم- حيث قال: {وَلاَ تَحْسَبَنَّ اللّهَ غَافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الأَبْصَارُ مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُءُوسِهِمْ لاَ يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاء}سورة إبراهيم: 42-43.[/rtl]
[rtl] فما أشد فرحك اليوم بتمضمضك بأعراض الناس وتناولك أوالهم، وما اشد حسرتك في ذلك اليوم إذا وقف بك على بساط العدل، وشوفهت بخطاب السيئات، وأنت مفلس فقير عاجز مهين لا تقدر على أن ترد حقاً أو تظهر عذراً، فعند ذلك تؤخذ حسناتك التي تعبت فيها عمرك وتنقل إلى أخصامك عوضاً عن حقوقهم..فانظر على مصيبتك في مثل هذا اليوم إذا ليس لك حسنة قد سلمت من آفات الرياء ومكائد الشيطان، فإن سلمت حسنة واحدة في مدة طويلة ابتدرها خصماؤك وأخذوها.. قال أبو حامد: ولعلك لو حاسبت نفسك وأنت مواظب على صيام النهار، وقيام الليل، لعلمت أنه لا يمضي عليك يوم إلا ويجري على لسانك من غيبة المسلمين ما يستوفي جميع حسناتك، فكيف ببقية السيئات من أكل الحرام، والشهوات والتقصير في الطاعات؟ وكيف ترجوا الخلاص من الظالم في يوم يقتص فيه للجماء من القرناء؟ {وَيَقُولُ الْكَافِرُ يَا لَيْتَنِي كُنتُ تُرَابًا}سورة النبأ: 40.[/rtl]
فكيف بك يا مسكين في يوم ترى فيه صحيفتك خالية من حسنات طال فيها تعبك؟ فتقول: أين حسناتي؟ فيقال: نقلت إلى صحيفة خصمائك، وترى صحيفتك مشحونة بسيئات غيرك. فتقول يارب هذه سيئات ما قارفتها قط. فيقال هذه سيئات الذين اغتبتهم وشتمتهم وقصدتهم بالسوء وظلمتهم في المعاملة والمبايعة والمجاورة والمخاطبة والمناظرة والمذاكرة والمدارسة وسائر أصناف المعاملة، فاتق الله في مظالم العباد بأخذ أوالهم والتعرض لأعراضهم وأبشارهم، وتضيق قلوبهم وإساءة الخلق في معاشرتهم، فإن ما بين العبد وبين الله خاصة المغفرة إليه أسرع، ومن اجتمعت عليه مظالم وقد تاب عنها وعسر عليه استحلال أرباب المظالم من حيث لا يطلع عليه إلا الله فليكثر من الاستغفار لمن ظلمه، فعساه أن يقربه ذلك إلى الله فينال به لطفه الذي ادخره لأرباب المؤمنين في دفع مظالم العباد عنهم بإرضائه إياهم.6..
وأعظم الحقوق، وأشد المظالم هي الحقوق لمتعلقة بحقوق الآخرين، وفي مقدمتها الدماء، ولذلك كانت أول ما يقضى فيها بين الناس؛ فعن عبد الله بن مسعود-رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (أول ما يقضى بين الناس يوم القيامة في الدماء)7.