الإعجاز الاجتماعي في القرآن والسنة
من الحقائق المسَّلم بها أنَّ القرآن اشتمَل على أصول كلِّ شيء؛ مصداقًا لقوله تعالى: ﴿ وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ ﴾ [النحل: 89].
ولهذا فقد اشتمَل القرآن على إشارات لطيفة لمختلف نواحي الحياة من العلوم بأنواعها، والاجتماع والأسرة وغيرها.
والقرآن كتاب هداية للبشر أولاً وأخيرًا، وفيه المنهج الإسلامي القويم الذي أنزَله الله تعالى للبشرية جمعاء، فهو - أي: القرآن - لَم ينزل ككتابٍ متخصصٍ في علوم الحياة؛ كالطب والهندسة وغيرها، إلاَّ أنه جاء بإشارات تُظهر الإعجاز الربَّاني في زمن عمَّ فيه الجهل بين الناس، فلا يُمكن مخاطبتهم بتفاصيل العلم.
لذا وجَدنا من علمائنا مَن يُظهر لنا ما اشتمَلت عليه آيات القرآن وأحاديث الرسول - صلَّى الله عليه وسلَّم - من إشارات علمية تحت اسم الإعجاز العلمي في القرآن والسُّنة، فيوضحون لنا معجزات باهرات تَستتر في ظلال كلمات قليلة من آيات الله وسُنة رسوله - صلَّى الله عليه وسلَّم.
وينبغي أن نَستنكر في هذا المقام مسلكَ البعض الذين حوَّلوا القرآن - بقصدٍ أو غير قصد - إلى كتاب علمي، يستخرجون منه كلَّ نظرية علمية تشيع في زمنهم، فتجدهم يبحثون وينقِّبون في آيات الله عمَّا يتناسب ظاهريًّا مع نظرية علمية ظهَرت في الغرب، وفي هذا المسلك ما فيه من الخطأ والخطر في آنٍ، فالخطأ لأنَّ القرآن - كما ذكَرت - ليس كتاب علمٍ دنيوي، وإنما هو كتاب هداية ورشاد، ومنهج للبشر، والخطر يأتي من أنَّ النظريَّات العلمية هي مُجرَّد نظريات قد يَثبت خطؤها في زمن لاحقٍ، فيتعرَّض كتاب الله تعالى للتشكيك ممن نقَضوا النظرية العلمية أو قرؤوها!
أمَّا ما نتحدَّث عنه فهو: أنَّ القرآن والسُّنة قد اشتملا على إشارات تدخل في إطار الإعجاز العلمي، دون أن تتناولَ الأمور العلمية بشكل كاملٍ لا يتَّفق ومنهج القرآن ووظيفته، ولا تتحمَّله عقول المعاصرين لنزول القرآن من العرب وغيرهم.
أمَّا في الإعجاز الاجتماعي، فالأمر مختلف، فنحن هنا لا نتحدث عن نظريات، وإنما عن قواعد اعتنى بها القرآن والسُّنة فيما يخصُّ حياة الإنسان والأسرة والمجتمع، فقد عَمِل القرآن على إصلاح حياة كلِّ هذه المستويات، ودفع ما قد يهدِّد حياتها من أخطار مادية ومعنوية.
وقد سلَك القرآن والسُّنة في ترسيخ هذه القواعد مسالك شتَّى، منها: الإخبار بحقائق تَغيب عن عقل الإنسان ولا يُدركها، ومنها الأمر بفِعْل بعض الأمور، ومنها النهي عن فِعْل أمر يُفسد حياة الفرد أو الأسرة أو المجتمع.
ومن مظاهر الإعجاز العظيم الذي نزَل في القرآن الكريم، ما ورَد فيه من أحكام وإشارات تخصُّ الإعجاز الاجتماعي في حياة الفرد والأسرة والمجتمع.
وكما القرآن جاءَت السُّنة النبوية المطهَّرة - على صاحبها أفضل الصلاة والسلام - تشع بنور الإعجاز الاجتماعي تنظيرًا وتطبيقًا؛ بحيث تُصلح الحياة، وتَجعلها أفضل وأجمل وأسمى.
لقد حفل القرآن والسُّنة بكثيرٍ من الأحكام والإشارات التي جاءَت لإصلاح المجتمع، ولا غَرْو فإنَّ من غايات الإسلام إصلاحَ حياة البشر، فالإسلام يريد الإنسان سويًّا سعيدًا، يعرف حقيقة نفسه ورغباتها، وما ينفعها وما يضرُّها.
يريد له أن يعيش في غنًى وبركة؛ ﴿ وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ ﴾ [الأعراف: 96].
ويريد منه أن يستثمر طاقاته ومواهب التي منَحه الله إيَّاها؛ ﴿ وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ ﴾ [التوبة: 105].
ويريد له كذلك أن يشعرَ بالعدل في حياته، وأن يُطبِّقه على غيره؛ ﴿ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ ﴾ [النساء: 58].
ويريد للأسرة المسلمة أن تَنشأ منذ بدايتها في مرضاة الله؛ ((فخُذ ذات الدين والخُلق، تَرِبَت يمينُك))[1]، و((إذا أتاكم مَن ترضون خُلقه ودينه، فزوِّجوه، إلاَّ تفعلوا، تكن فتنة في الأرض وفساد عريض))[2].
وكذلك يُريد لها أن تعيش في سعادة وهناء، ومودَّة وحبٍّ؛ ﴿ وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً ﴾ [الروم: 21].
كما أنَّ الإسلام يسعى لأن يكون المجتمع كله يعيش في رحمة الله وبركته؛ ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ ﴾ [الحديد: 28].
وبالإجمال، فإنَّ الإسلام يريد للمجتمع كلِّه أن يَحيا حياة سعيدة في الدنيا، وأن يستحقَّ نعيمَ الله في الآخرة، ولأجل ذلك فإنه أنزَل في القرآن والسُّنة المطهَّرة أحكامًا، وأشار إشارات تؤدِّي لهذا الهدف، وترشد مَن يَعِي ويتدبَّر إلى عوامل النجاح والسعادة للفرد والأسرة والمجتمع.
من مظاهر الإعجاز الاجتماعي على مستوى الفرد:
1- إشباع رغبة الإنسان في معرفة نفسه:
أ- فالإنسان مجبول على السعي وراء معرفة حقيقة نفسه، يريد أن يعرف من أين بدَأ، وإلى أين المصير، ومكانته بين المخلوقات عند ربِّه، ويعلم الله تعالى أن الإنسان سيُنفق الكثير من الأوقات والجهود والمؤلَّفات من أجْل معرفة تلك الحقائق، وأنه سيظهر الفلاسفة بآرائهم ونظريَّاتهم، محاولين الوصول لمعرفة أصل النفس البشرية ومنتهاها، وأنهم سيضلون في أغلبهم - إلاَّ مَن رَحِم الله تعالى - لذا يأتي القرآن ليُشبع نَهمة الإنسان لمعرفة مبتدئه، فيقول له: ﴿ وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ * ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ * ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ ﴾ [المؤمنون: 12 - 14].
ويُبيِّن له مصيرَه ومُنتهاه؛ ﴿ ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذَلِكَ لَمَيِّتُونَ * ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تُبْعَثُونَ ﴾ [المؤمنون: 15- 16].
كما يُبيِّن له مكانته عند ربِّه - سبحانه - من بين مخلوقات الله جميعًا؛ ﴿ وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ * وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلَائِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلَاءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ * قَالُوا سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلاَّ مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ * قَالَ يَا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ * وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ ﴾ [البقرة: 30 - 34].
ب- توضيح خبايا النفوس، وأنَّ النفوس منها الخيِّر ومنها الشِّرير؛ ﴿ وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا * قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا ﴾ [الشمس: 7 - 10].
2- مُراعاة قُدرات البشر المختلفة:
أ- ومن هنا شرَع الإسلام العزيمة والرُّخصة، وجعَل الرخصة أمرًا محبوبًا؛ فعن ابن عمر قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((إن الله يحب أن تُؤتى رُخَصه، كما يَكره أن تُؤتى معصيته))[3].
ب- كما شرَع الإسلام العبادة وجعَل على مَن لا يقدر عليها بديلاً، قضاءً أو كفارة، أو كليهما؛ مراعاة للقدرات المتفاوتة؛ ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ * أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ ﴾ [البقرة: 183- 184].
3- مراعاة الأحوال المختلفة للبشر التي قد تَمنعهم من أداء العبادة على الوجه الأكمل، فشرَع الإسلام صلاة الخوف في الحرب؛ قال تعالى: ﴿ وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلَاةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذَا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرَائِكُمْ وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ مَيْلَةً وَاحِدَةً وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ كَانَ بِكُمْ أَذًى مِنْ مَطَرٍ أَوْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَنْ تَضَعُوا أَسْلِحَتَكُمْ وَخُذُوا حِذْرَكُمْ إِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا ﴾ [النساء: 102].
4- مراعاة الفطرة الإنسانية، والحث على إعطائها حقَّها من رغباتها الحلال، وعدم القسوة عليها بما فوق طاقتها؛ فعن أنس بن مالك - رضي الله عنه - يقول: جاء ثلاثة رهط إلى بيوت أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - يسألون عن عبادة النبي - صلى الله عليه وسلم - فلمَّا أُخبروا، كأنهم تقالُّوها، فقالوا: وأين نحن من النبي - صلى الله عليه وسلم - قد غُفِر له ما تقدَّم من ذنبه وما تأخَّر؟ قال أحدهم: أمَّا أنا فإني أصلي الليل أبدًا، وقال آخر: أنا أصوم الدهر ولا أُفطر، وقال آخر: أنا أعتزل النساء فلا أتزوَّج أبدًا، فجاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إليهم، فقال: ((أنتم الذين قلتُم كذا وكذا؛ أما والله إني لأخشاكم لله وأتقاكم له، لكني أصوم وأفطر، وأُصلي وأرْقُد وأتزوَّج النساء، فمَن رَغِب عن سُنتي، فليس مني))[4].
ومن مظاهر الإعجاز على مستوى الأسرة:
1- الإخبار عن احتياجات كلٍّ من الذكر والأنثى للسكن والحب والتراحم، وتشريع الزواج لتوفير تلك الاحتياجات؛ ﴿ وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ ﴾ [الروم: 21].
2- الإخبار عن معايير البشر في اختيار الزوج والزوجة، والأمر بذات الدين وصاحب الدين في اختيار الزوج، وإلاَّ حدَث الفساد؛ ((تُنكح المرأة لأربع: لمالها ولحسَبها، وجمالها ولدينها، فاظْفَر بذات الدين، تَرِبت يداك))[5]، وهذا مما هو مشاهَد ومعلوم باليقين من واقع الحياة.
3- الحرص على حِفظ صلات الرَّحم وتَقْوِيتها، ومَنْع ما يقطعها، أو يُضعفها ويُوهنها، ومن هنا حرَّم الإسلام الزواج ببعض النساء، وجعَلهنَّ محارِمَ؛ يقوله تعالى: ﴿ حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخَالَاتُكُمْ وَبَنَاتُ الْأَخِ وَبَنَاتُ الْأُخْتِ وَأُمَّهَاتُكُمُ اللاَّتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ مِنَ الرَّضَاعَةِ وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ وَرَبَائِبُكُمُ اللاَّتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمُ اللاَّتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ وَحَلَائِلُ أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلَابِكُمْ وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ إِلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا ﴾ [النساء: 23].
وكما حرَّم القرآن الجمْعَ بين الأُختين حِفظًا لصِلات الأرحام، نهى الرسول - صلَّى الله عليه وسلَّم - أن يتمَّ الجمع بين المرأة وعمَّتها أو خالتها؛ فعن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((لا تُنكح المرأة على عمَّتها ولا على خالتها))[6].
ومن أجل حِفظ الأرحام نهى الرسول - صلَّى الله عليه وسلَّم - عن تفضيل بعض الأبناء على بعض؛ فعن النُّعمان بن بَشير قال: انطلَق بي أبي يَحملني إلى رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - فقال: يا رسول الله، اشْهَد أني قد نحلْتُ النُّعمان كذا وكذا من مالي، فقال: ((أكل بَنِيك قد نحلْتَ مثل ما نحلتَ النُّعمان؟))، قال: لا، قال: ((فأشْهِد على هذا غيري))، ثم قال: ((أيَسُرُّك أن يكونوا إليك في البرِّ سواءً؟))، قال: بلى، قال: ((فلا إذًا))[7].
ومن مظاهر الإعجاز على مستوى المجتمع:
1- إباحة البيع الذي فيه مصلحة المجتمع من حركة المال بيعًا وشراءً، واستهلاكًا لخيرات الله في الأرض، وتحريم الربا؛ ﴿ وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا ﴾ [البقرة: 275]، والأمر بتَرْك الرِّبا، والإنذار بالعقاب الأليم في الدنيا والآخرة، ووَضْع الحل لِما كان قائمًا من الرِّبا بإعطاء صاحب المال رأسَ ماله فقط؛ ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ * فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ ﴾ [البقرة: 278 - 279].
2- تحريم الاعتداء على الأنفس؛ لِما يجرُّ ذلك من جرأة المعتدي المُجرم على أنفس أخرى، ولِما يُثيره في نفوس أهل القتيل من الرغبة في الثأر، فتتكاثر الدماء كما يحدث في المجتمعات التي لا تُطبِّق شرْعَ الله تعالى؛ ﴿ مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا ﴾ [المائدة: 32].
ثم وضع الحل بالقصاص العادل الذي يشفي نفوس أهل القتيل من ناحية، ويُرهب كلَّ مَن لديه نزعة إجرامية من ناحية أخرى؛ ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثَى بِالْأُنْثَى ﴾ [البقرة: 178].
3- تشريع الحجاب وغض البصر، وتحريم الخلوة؛ ليَحفظ الأعراض، ويَصون عيون الرجال والنساء مما يُثير شهواتهم، ويَفتح الباب واسعًا للحرام؛ ﴿ قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ * وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ ﴾ [النور: 30 - 31].
وعن ابن عباس عن النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - قال: ((لا يَخْلُوَنَّ رجلٌ بامرأة إلاَّ مع ذي مَحرم))[8].
وبعدُ، فهذا غَيْض من فيض من مظاهر الإعجاز الاجتماعي في القرآن والسُّنة، وإن شاء الله تعالى سأُخصِّص لهذا الموضوع دراسة كاملة تسعى لتَقَصِّيه، فهو موضوع بالغ الأهميَّة، وأحد مفاتيح فَهْم القرآن والسُّنة، وفَهْم نفس الإنسان في ذات الوقت.
أسأل الله - سبحانه وتعالى - أن يتقبَّل تلك الأسطر، وأن يجعلَها في ميزان حسناتي من باب الدعوة إليه، وخدمة القرآن والسُّنة، إنه وَلِي ذلك والقادر عليه.
[1] أحمد (11782)، والحاكم (2680)، وقال: صحيح الإسناد ووافَقه الذهبي، وأبو يعلى (1012)، وابن أبي شيبة في مُصنَّفه (17149)، والهيثمي في مجمع الزوائد (7326)، وقال: رواه أحمد وأبو يعلى والبزَّار، ورجاله ثِقات، وقال الألباني: رواه أحمد بإسناد صحيح، والبزَّار وأبو يعلى، وابن حبَّان في صحيحه (1919)، صحيح الترغيب والترهيب.
[2] ابن ماجه: كتاب النكاح، باب الأكفاء (1967)، واللفظ له، والترمذي (1085)، وقال: حديث حسن غريب، والحاكم (2695)، وقال: حديث صحيح الإسناد، والطبراني في الأوسط (446)، وقال الألباني: حسن (270)؛ صحيح الجامع.
[3] مسند أحمد (12/ 137)، وقال شعيب الأرناؤوط: صحيح، وهذا إسناد حسن رجاله ثِقات رجال الصحيح غير حرب بن قيس.
[4] صحيح البخاري (12/ 534).
[5] صحيح البخاري (5/ 1958).
[6] صحيح مسلم 7748، (4/ 135).
[7] مسلم: كتاب الهبات، باب كراهة تفضيل بعض الأولاد في الهِبة (1623).
[8] صحيح البخاري - ترقيم فتح الباري - مشكل (13/ 209).