النمو النفسي عملية تستمر مدى الحياة:
كما أن النمو الجسدي يبدأ مع المهد وينتهي باللحد، كذلك فإن الحياة النفسية للإنسان تنمو يومًا بعد يوم ولا تتوقف عند مرحلة معينة، فالنمو النفسي ومن ثم العلاقات بالآخرين تتطور مع العمر.
أول من وصف النمو النفسي الاجتماعي عبر السنين هو العالم إريك إريكسون الذي قسم عمر الإنسان إلى مراحل عمرية حسب القضية المحورية لكل مرحلة، وبناءًا على نجاح الإنسان في تخطي مراحل تلك المهمة أو فشله فإنه يتطور اجتماعيًا مستعدًا للدخول في المرحلة التالية وهكذا.. وسمى هذه المراحل متجمعة باسم "المراحل النفسية الاجتماعية" لأنه ربط بين النمو النفسي وبين العلاقات الاجتماعية وكل مرحلة من تلك المراحل تناقش قضية محورية من خلال أزمة معينة وبالتفاعل والتعامل معها من خلال علاقاته الاجتماعية مع الوالدين أولاً ثم غيرهم لاحقًا يتقرر ماذا سيكون سلوكه في التغلب على تلك الأزمة وباجتيازها يكون قد حقق نجاحًا واكتسب تقدمًا "نفسيًا" يسهل له دخول المرحلة التالية، وفي كل مرحلة يتعامل مع الأزمة ومن خلالها يحقق قضيته المحورية.. قد تبدو الكلمات السابقة غامضة ولإزالة الارتباك عنها فسنمر سريعًا على تلك المراحل في ظل هذا التنظير.
خلال العام الأول من العمر يكون هناك أزمة ثقة بين الرضيع وبين من يرعاه، والده ووالدته.. وكأن السؤال الذي يدور في ذهنه: هل سيوفر لي الحب والأمن والغذاء أم لا؟ وعندما يتعامل الوالدين بالفطرة السليمة موفرين له كل ما يحتاج من حب وحنان وأمن ورعاية فإن الأزمة تنتهي ويبني جسر من الثقة والأمان وهو ما يساعده في المرحلة التالية.
العام الثاني؛ أزمة الأستقلالية
خلال العام الثاني من العمر ومع نمو الجهاز الحركي والعصبي وقدرة الطفل على الحركة هنا وهناك تكون الأزمة عند الطفل متعلقة بمسألة "الاستقلالية" وهل سيقوى على ذلك أم لا؟
وإمتدادًا لموقف الوالدين خلال المرحلة الأولى الذي بث احساس الحب والحنان والأمان مما يمنحه الشجاعة للاستقلالية في مشيه ولعبه وطعامه وفي الشراب.. ومع نشأة الاستقلالية يتعلم الأطفال التحكم في دوافعهم حتى يحققوا الإنجازات من وجهة نظرهم ، وهنا نقول إن لم يمنح الطفل هذه الفرصة ليجرب ويخطئ ثم يجرب ويصيب ومنها يحقق ذاته.. إن لم يمنح له الفرصة وأفرط والديهفي الحماية ظنًا منهم إن ذلك حبًا منهم ومنعه من فعل أى شئ خوفًا من أن يخطئ سيجعله دائمًا فاقدًا الثقة بنفسه وسيكون قد فشل في تجاوز هذه المرحلة.
من 3 إلى 5 سنوات ؛ أزمة المبادرة
في المرحلة العمرية بين الثلاث والخمس سنوات يتطور الأمر عند الطفل ليتعدى حدود مجرد قدرته على التحكم في نفسه لكى تنمو لديه القدرة على الابتكار والبدء في أنشطة بذاته، بل والقدرة على إتمامها، ويأتي هنا دور الوالدين بالتشجيع أو التثبيط نحو فكرة أن يبدأ عمل تلو عمل، فإن كان رد فعلهم بالتشجيع فهذا يمنحه الثقة بالنفس والشجاعة على تحقيق الذات... أما لو كان الوالدان من النوع المثبط فرد فعلهم لن يصيب طفلهم إلا بخيبة الأمل والإحراج.
من العام السادس وحتى البلوغ ؛ أزمة الكفاءة
خلال المرحلة الابتدائية من الدراسة يتعلم الأطفال المهارات والقيم الهامة مثل القراءة والكتابة والمهارات واللياقة الجسدية.. كما يتعلمون القدرة على تقاسم المسئوليات وتوزيع الأدوار وتحمل كل شخص المسئولية أمام الآخرين، وعلى قدر نجاحه في ذلك فإن ثقته بنفسه تقوى إلى حد يمنحه احساس بالزهو والكفاءة وعلى العكس فإن فشله في ذلك يمنحه احساس بالدونية عمن سواه.
مراحلة المراهقة ؛ أزمة الهوية
تحدثنا سابقًا عن أزمة الهوية بين تحقيقها وتأكيدها وبين ذوبانها بين الآخرين، وعندما يصل المراهق إلى مرحلة المراهقة وقد إجتاز كل المراحل السابقة الذكر بنجاح وتخطى أزمتها واحدة تلو الأخرى فإن ذلك يمنحه القوة والثقة لاجتياز أزمة الهوية.
مرحلة الشباب ؛ أزمة الألفة والعلاقات القوية
خلال مرحلة الشباب يبدأ الإنسان عمله المهني.. يتزوج ويكون روابط ودية وبالطبع يساعد في قوة هذه العلاقات هويته الذاتية في المرحلة السابقة (مرحلة المراهقة) ويرى علماء النفس أن المراهق الذي افتقد بناء هوية واضحة المعالم قوية الأركان غالبًا ما يجد صعوبة في إقامة علاقات طيبة مع الغير بسبب الأفكار الخاطئة التي تملأ أذهانهم عن أنفسهم.
لذا فإن أزمة هذه المرحلة تتلخص في "هل سينجح الإنسان في بناء علاقات قوية مع زوجته.. مع أقاربه.. مع زملائه؟" وإلا لو فشل في ذلك فسيؤدي إلى انعزاله.. وبانشغال الإنسان بهذا الأمر يتعلم مهارات توكيد الذات والتعبير عنها مما يساعد في نجاحه في بناء علاقات قوية.
مرحلة منتصف العمر ؛ أزمة دور الإنسان بين الآخرين
تعتبر الفترة بين العام الأربعين والخامس والستين من العمر من أكثر فترات عمرهم من الناحية الإنتاجية.. فمن الملحوظ بيننا أن الأشخاص في الأربعينات والخمسينات هم الأكثر توليًا للأمر في المهن المختلفة.. وليس حديثنا هنا عن عدد ساعات العمل أو كمية العمل لكن المقصود هنا هو ما يقدمه رجل أو امرأة في هذا السن لغيره من الأجيال من النصائح والإرشاد والتوجيه مما ينعكس على مدى إنتاجية الأجيال الأصغر.. لكن لن يكون الكبير موجهًا ومرشدًا للأجيال من بعده إلا بتوفر الخبرة والتجربة التي عاشها بالإضافة إلى وجود علاقات بينه وبين الآخرين يسعى لنقل خبراته إليهم ليستفيدوا منها..
تقديم العون لحديثي السن أو الزملاء أو الصغار في مثل هذه المرحلة العمرية يعطي شعور بالرضا والسعادة لما يشعر به من جود دور "هام" له في العمل لبناء مجتمع فاضل.. إذا تعثر الإنسان في تلك المرحلة ولم ينجح في التغلب على هذا التحدي فإنه يعاني مما يعرف باسم "أزمة منتصف العمر" عندما يدرك أنه لم يتمكن من تحقيق الأهداف التي أمل أن تتحقق في مقتبل العمر وبعد أن مرت الأيام دون عمل مفيد لدينهم أو لدنياهم ومجتمعهم.
العديد من الدراسات المطولة التي تابعت عدد كبير من الرجال والنساء عبر فترات زمنية طويلة بينت أن الكثير من الرجال يعانون من فترة من الاضطراب العاطفي خلال العقد الخامس من العمر (فترة الأربعينات) وهذا الاضطراب يتمركز حول عدة نقاط أهمها علاقته الجنسية بزوجته ودوره كأب في الأسرة وقواعد العمل، وليست أزمة منتصف العمر حصر على الرجال بل يمر بها النساء أيضًا.
يشبه البعض مرحلة منتصف العمر بمرحلة "مراهقة ثانية" حيث يراجع الإنسان فيها أهدافه وإنجازاته ويعيد تقييمها ويعاود سؤال نفسه أسئلة قد سألها من قبل: من أنا، وما مستقبلي؟ بل أنها تصبح أسئلة في غاية الأهمية لتحديد مسار المرحلة، وخلال هذه المرحلة العمرية تتلقى السيدات عددًا من الأحداث الهامة مثل زواج أحد الأبناء أو البنات والانتقال إلى منزل مستقل، أو أن تفقد السيدة دورتها الشهرية لتنتقل لما يسمى خطأ "سن اليأس" لكن على أية حال فإن معظم النساء يتقبلن تلك الأحداث بهدوء.
في مثل هذه المرحلة العمرية يواجه عدد من الرجال والنساء نبأ فاة أحد الأقارب ممن يكبرونهم سنًا وقد يكون أحد الأقارب هو الوالد أو الوالدة.. ولا يمر هذا الحدث مر الكرام بل يكون له دور هام في إعادة هيكلة الأهداف المستقبلية، فمع استشعار أنه لم يبقى في العمر أكثر مما فات يبدأ الإنسان في التفكير في استغلال باقي العمر وترتيب الأهداف الآتية.. لذا فقد نرى من حولنا من أقدم على تغييرات جذرية في حياته في هذه الفترة العمرية التي نتحدث عنها.
وإن كان البعض يتعامل مع أزمة منتصف العمر على أنها "أزمة" إلا أن الناجحين يتعاملون معها على أنها "تحدي" ويسعون لتجاوزه ولإضافة إنجاز آخر في مراحل حياتهم.
سنوات الشيخوخة ؛ أزمة الكمال والهروب من اليأس
الشيخوخة الطبيعية هى عملية تدريجية تحدث بعض التغيرات في الجسم مثل بطء ردة الأفعال العصبية وضعف الرؤية والسمع وضعف القدرة الجسدية عامة.
أثبتت الأبحاث الحديثة عدم صحة الفكرة القديمة التي تقول أن القدرات العقلية تضمحل مع كبر السن، لكن وإن كان كبار السن يؤدون العمليات الحسابية وغيرها ببطء لكن ليس هناك دليل علمي أن قدرتهم العقلية تقل مع كبر السن وإن قدرتهم على التعلم قد نفذت ولو تمرن أحدهم على طرق الحساب ثانيةً فإنه يعاود نشاطه بمستوى قد يقترب من صغار السن.
ولو تابعت أعداد العاملين في مناصب هامة ممن تزيد أعمارهم عن الستين أو السبعين لاستنتجت أن القدرات العقلية في هذا السن لازالت بصورة جيدة.
كان هذا الجانب المشرق من الصورة لكن بالسنبة لعدد من كبار السن فإن هذه المرحلة من العمر لا تبقي على سعادتها، فالذين يعانون من أمراض عضوية تحد من نشاطهم أو من يعاني من مرض خطير فإنه يشعر بالموت يهدده في كل لحظة، كما أن عدد غير قليل ممن تقاعدوا بسبب بلوغهم سن المعاش يجدون صعوبة في شغل ساعات يومهم مما يحد من ثقتهم بأنفسهم وبخاصةً في المجتمعات التي تنظر للإنسان بنظرة مادية وتقدر قيمته فقط بمدى إنتاجيته ويزيد الأمر سوءًا وفاة أحد الزوجين أو الأبناء أو الأصدقاء مما يبث شعورًا بالوحدة.. وتظهر أزمة تلك المرحلة بطريقة مواجهة الإنسان لأيامه الأخيرة في حياته.
فترة الشيخوخة هى مرحلة ينظر الإنسان خلالها على صفحات حياته على مر السنوات محاولاً أن يشعر أنه حاول أن يقترب من كمال الشخصية وتمام أداء رسالته في الحياة.. فهناك من ينظر
لسنوات عمره بأسى وندم مشاهدًا في حياته السابقة سلسلة من المحاولات الفاشلة والفرص الضائعة مما يجعل من سنوات عمره الأخيرة سنين من اليأس وخيبة الأمل، لكن مع الدوام على عمل صالح عبر سنين الحياة والذرية الصالحة في ميزان الفرد ليرى ثمرة عمله لله وعونه للآخرين وتربية أبناءه وأحفاده تربية صالحة وحتى وإن هرم فعندما ينظر من حوله ويرى عملاً مفيدًا لمجتمعه لأسرة كريمة أو علم ينتفع به أو ولد صالح يدعو له فساعتها الشعور بالرضا والتمام وبخاصةً إن أصلح علاقته بربه.. فكيف بمن أصلح ما بينه وبين ربه أن يشعر باليأس أو يندم على شئ فاته في الدنيا..
عن موقع طبيب نفساني دوت كوم